التاريخ: 2024-11-21 20:49:58
بقلم: المقدم/ ذياب الباشا
بالنظر إلى التحديات الأمنية المتزايدة التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة في تحقيق التنمية، أصبح تعزيز الأداء الأمني ضرورةً تتطلب الإعتماد على مجموعة متكاملة من الأدوات والأساليب التي تتجاوز العمل الأمني التقليدي، والتي يجب أن تأخذ في الإعتبار العديد من المحددات والمتغيرات المحلية والدولية، من أهمها مواكبة احتياجات المجتمع المحلي وطبيعته وتنوع الثقافات الموجودة فيه، ومواكبة التسارع المخيف في التطورات التكنلوجية والذي بدوره قد أثر بشكل كبير على طبيعة الجرائم وأساليب تنفيذها ووفر أدواتٍ جديدةٍ للمجرمين لتخطيط وتنفيذ جرائمهم بسرية وسرعة. فأصبح من السهل ارتكاب الجرائم (وخاصة الرقمية) من أي مكان في العالم دون أهميةٍ للحدود الجغرافية ومن دون الحاجة للتنقل، مما جعل مكافحتها اكثر تعقيداً.
وعند التعمق في دراسة مختلف التجارب الدولية في أساليب وأدوات تعزيز الأداء الأمني، يمكن القول أن تعزيز الشراكة المجتمعية كانت الأبرز والأكثر مردوداً من خلال تطبيق نماذج الشرطة المجتمعية التي تمثل تحولاً من نموذج الشرطة التقليدي إلى نموذج يعزز الشراكة المجتمعية كضرورة وأداة فعّالة لمواجهة الجرائم والحد منها. وذلك من خلال تقديم الخدمة الأفضل وتطوير العلاقة بين الشرطة والمجتمع، وتعزيز الثقة بين الشرطة والمواطنين عبر التواصل المستمر والتفاعل المباشر والفعال. مما يمكن المؤسسة الأمنية من التغلغل في كافة تفاصيل مشاكل المجتمع ومحاولة حلها جذرياً، وتحديد التهديدات الطارئة والناشئة بسرعة، والعمل على منع ومكافحة الجرائم بشكل استباقي قبل وقوعها بالتعاون والشراكة مع مختلف شرائح ومؤسسات المجتمع.
يعتبر البعض أن روبرت بيل (Robert Peel)وزير الداخلية البريطاني في القرن التاسع عشر، هو المؤسس لفكرة الشرطة الحديثة، والتي تعد الشرطة المجتمعية تطورًا طبيعيًا لها. وذلك بتأسيسه لمبادئ الشرطة الحديثة المعروفة بـ"مبادئ بيل التسعة" في عام 1829 عندما أسس شرطة العاصمة في لندن.[1]
ويرى البعض أن الشرطة المجتمعية كنموذج حديث قد تطور بشكل رئيسي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كرد فعل على التوترات الاجتماعية والعرقية التي شهدتها تلك الفترة.[2] كما يرى البعض أن ظهور الشرطة المجتمعية كان نتيجةً لفشل السياسات الأمنية القديمة في حل مشكلات المجتمعات الحضرية، مما دفع إلى تبني استراتيجيات جديدة تُركز على المشاركة المجتمعية.[3]
وعند البحث في مختلف التجارب الدولية، نرى تبني الولايات المتحدة لمفهوم الشرطة المجتمعية في 1960 من خلال برامج مثل "مبادرة الشرطة المجتمعية" التي تم تنفيذها في العديد من المدن الرئيسية على خلفية ارتفاع معدلات الجريمة والاضطرابات العامة في نيويورك ولوس أنجلوس[4]. كما تبنت المملكة المتحدة في سبعينات القرن الماضي نموذج الشرطة المجتمعية من خلال برامج "ضباط الجوار" الذين يعملون على بناء علاقات طويلة الأمد مع المجتمعات المحلية.[5] بينما في تركيا تطورت الشرطة المجتمعية بهدف تعزيز الأمن وتحسين العلاقة بين الشرطة والمواطنين في أوائل العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، حيث تم تنفيذ برامج تهدف إلى زيادة التعاون بين الشرطة والمجتمع من خلال مكاتب الشرطة المحلية وتقديم خدمات مثل توعية السكان والوقاية من الجريمة.[6]
أما في اليابان وفي عصر ميجي تحديداً (1868 - 1912)، قامت اليابان بتطوير نظام شرطة خاص بها. فأنشأت إدارة شرطة طوكيو العاصمة في عام 1874 نظام صناديق الشرطة المجتمعية (كوبان). والذي تم اعتباره لاحقاً صورةً لإبداع الشعب الياباني في بناء نظام الشرطة الخاص بهم، فهو من أقدم النظم المطبقة للشرطة المجتمعية في العالم، نشأ وتطور ليصبح من أكثر وأشهر النماذج الناجحة – إن لم يكن أفضلها - لأنظمة الشرطة المجتمعية المتكاملة التي تتمتع بصبغتها الثقافية والتكنلوجية الخاصة بها، ضمن أداء مهني أقرب ما يكون للمثالية التي تتضح في بساطة المهام وعمق النتائج. وقد قامت دول مثل سنغافورة والبرازيل وجنوب افريقيا بدعم من اليابان بتبني ونسخ نظام الكوبان الياباني بتطبيق نظام الصناديق الشرطية والتواجد الدائم للشرطة في الأحياء المحلية لتعزيز الأمان والتعاون المجتمعي.[7]
وفي السياق الفلسطيني، يمكن القول بأن المبادئ العامة للشرطة المجتمعية كأسلوبٍ للعمل الشرطي ليست شيئاً جديداً بالنسبة للمؤسسة الشرطية الفلسطينية، إذ أنه وبحكم طبيعة الثقافة المجتمعية (العشائرية) في فلسطين، كان لابد من أن تنخرط المؤسسة الأمنية منذ نشأتها في أنشطة إشراك المجتمع لحل المشاكل والوقاية من الجريمة. فكان ضباط الشرطة الفلسطينية يعملون بمهام الشرطة المجتمعية دون الاشارة إلى المصطلح ذاته (الشرطة المجتمعية)، لحين بدء انتشار هذا المفهوم وتجسيده قانونيا واستراتيجياً في الخطة الاستراتيجية للشرطة الفلسطينية 2014-2016، وفي الاطار الإسترتيجي لعمل الشرطة المجتمعية 2017.[8]
بدأ تردد ظهور مصطلح الشرطة المجتمعية في الشرطة الفلسطينية في 2012-2013، وتضمنت الخطة الاستراتيجية للشرطة الفلسطينية للأعوام 2014-2016 عدة أهداف استراتيجية للشرطة المجتمعية وتقديم الخدمة. شملت انشطةً مثل المحاضرات التوعوية حول الوقاية من الجريمة والسلامة في المدارس والجامعات وفئات المجتمع المعرضة للخطر، وحملات إعلامية حول السلامة العامة والأمن ومكافحة المخدرات، وأنشطة تطوير الشراكة مع المؤسسات والمنظمات غير الحكومية. وبناء مراكز الشرطة المجتمعية ونشر المراكز المتنقلة لمعالجة الاحتياجات الشرطية للمجتمعات التي يصعب الوصول اليها.[9]
إن معظم ضباط الشرطة الفلسطينية العاملين في الميدان اليوم، كضباط المراكز وضباط ادارة العلاقات العامة والإعلام، وضباط التوعية المجتمعية من مختلف الإدارات المتخصصة كمكافحة المخدرات والمرور وهندسة المتفجرات والجرائم الإلكترونية وحماية الأسرة وغيرهم. جميهم ضباط شرطة عملوا خلال العشر سنوات السابقة على تطبيق ونشر مفاهيم الشرطة المجتمعية بأبهى صورها، وأبدعوا في التواصل الفعال والهادف وتقديم الخدمة الأفضل وحل المشاكل لمختلف فئات المجتمع، وقد تمثل ذلك في الزيارات والنشاطات والفعاليات التوعوية لمعظم مدارس وجامعات ورياض الأطفال ومختلف مؤسسات وفئات المجتمع في المدن والقرى والمخيمات، بالإضافة إلى المشاركة في حل العديد من المشاكل المجتمعية والإنخراط بالإجراءات العشائرية والإصلاح وتعزيز التماسك الاجتماعي.
يذكر القائمون على إصدار الإطار الإستراتيجي للشرطة المجتمعية الفلسطينية (ومنهم المنسق الأول للشرطة المجتمعية الفلسطينية العقيد فريد لدادوة رحمة الله عليه) أن هناك نموذجين مختلفين للشرطة المجتمعية في العالم، في النموذج الأول يتم تعيين ضباط محددين في وحدات الشرطة المجتمعية. وفي النموذج الثاني يتم تعزيز الشرطة المجتمعية كأسلوب شامل للعمل الشرطي، بحيث يكون كل ضابط في المؤسسة هو ضابط شرطة مجتمعية. وتفضل الشرطة الفلسطينية النهج الثاني[10] . وعند سؤالي للعقيد فريد رحمه الله في خضم النقاشات والعواصف الفكرية قبل ما يقارب 10 سنوات: لماذا فضلتم النهج الثاني واستبعدتم النهج الأول؟ فكانت اجابته بأن الشعب الفلسطيني وبالرغم من الظروف الصعبة التي نمر بها عبر الحقبات التاريخية، إلا أننا شعب متميز دائماً في ظروفنا وآليات تأقلمنا، لم نستبعد النهج الأول، بل بإرادتنا وبقدراتنا المتواضعة سنعتمد على التخصص في النهج الأول كجسر للعبور والوصول للتعميم والتكامل في النهج الثاني، وذلك عبر نهج عملي يعتمد على تثبيت المفاهيم والتطوير المستمر في سبيل تحسين جودة الحياة والحرص على التماسك الإجتماعي والتنمية المجتمعية المستدامة.
وهذا ما يتضح عند دراسة المراحل والتطورات التي أثرت على هيكلية وآلية عمل ضباط الشرطة المجتمعية الفلسطينية، ففي الفترة الأخيرة وبهدف التطوير وتنمية المجتمع والبحث عن الأساليب والأدوات الفضلى التي تواكب التطورات العالمية والتكنلوجية وتناسب خصوصية المجتمع الفلسطيني. قام اللواء علام السقا مدير عام الشرطة في نوفمبر2024 بتغييرات لتطوير الأداء المؤسسي الشرطي تضمنت تغيير مسمى وحدة الشرطة المجتمعية إلى دائرة وتعيين مدير ونائب لها. وتوجيه تعليمات مباشرة بالاهتمام بتطوير الخدمات التي تقدمها الشرطة بشكل عام والشرطة المجتمعية بشكل خاص بالاعتماد على كافة الإمكانيات المتاحة في تطبيق مبدأ التكاملية وتعزيز التواصل وبناء الشراكات الفعالة مع المجتمع، والعمل بشكل جاد في سبيل مواجهة التحديات ومكافحة الجريمة بمختلف أشكالها من خلال الانتقال الى التكنولوجيا الحديثة والاستثمار الأوسع للموارد. في سبيل تحقيق سرعة الاستجابة وإتاحة إمكانية الوصول لخدمات شرطية متكافئة تضمن الإستقرار والتنمية والإزدهار بالتعاون والشراكة المجتمعية.[11]
في مقابلة مع مدير الادارة التي أوكلت إليها مهمة انشاء وحدة الشرطة المجتمعية كخطوة أولى وعملت على تطويرها – والتي ضمت ضباطاً منسقين للشرطة المجتمعية في شرطة المحافظات والمديريات، بهدف نشر وتعميم مفاهيم الشرطة المجتمعية، والقيام بنشاطات ودراسات مسحية لملائمة السياسات بالاحتياجات المجتمعية - يرى العميد أبو زنيد أبو زنيد مدير ادارة العلاقات العامة والاعلام بالشرطة: "أن مفهوم الشرطة المجتمعية كنهج قد تبلور فعلاً خلال السنوات الماضية، ونعمل الآن على تكريسه ليصبح أداءً شرطياً يمزج بين الفلسفة والاستراتيجية والأسلوب بشكل فطري مميز، مع مراعاة التشريعات والتطبيق السليم للقانون، وحفظ القيم والموروثات الثقافية والحضارية للشعب الفلسطيني، وتعزيز ثقافة استقصاء المشاكل وحلها استباقياً بالشراكة مع المجتمع".
مع أن مفهوم الشرطة المجتمعية يبدو حديثاً، إلا أن جذوره التاريخية لابد وأن تعود إلى الضرورة التي وجهت المؤسسة الأمنية لإشراك المجتمع في حل المشاكل والمشاركة في العملية الأمنية ذاتها. طريق مبدأ المشاركة هو طريق باتجاه واحد، يؤدي فقط إلى وضع سياساتٍ وطنيةٍ تحقق التوازن بين الإحتياجات الأمنية وحقوق المواطنين وحرياتهم. بإختصار: إنه نهج تكاملي يهدف إلى تعزيز الإستقرار والتنمية المستدامة من خلال التعاون بين مختلف الأطراف في الدولة (أفراد ومؤسسات وحكومة).
إخواني وأخواتي الإعزاء. لابد لنا جميعاً من توجيه جهودنا المشتركة نحو الابتكار وتطوير القدرات والإستغلال الأمثل للإمكانات المتاحة بهدف معالجة التحديات وتعزيز التماسك الإجتماعي وتحقيق الأهداف التنموية المستدامة. زميلنا العقيد فريد، اطمئن نحن وبإذن الله يدٌ بيد على الطريق الصحيح في سبيل خدمة هذا الوطن.
.