التاريخ: 2017-08-29 10:16:42
فريضة الحج
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ةمن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والصلاة والسلام على نبينا القائل :"أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" رواه مسلم.
الحج ركن من أركان الاسلام تهفو إليه القلوب المسلمة وتلبي له الأفئدة المؤمنة الموحدة على اختلاف أجناسها وتعدد ألوانها واختلاف قبائلها وأنسابها قائلة: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لم والملك لا شريك لك مستجيبة لذلك النداء الذي أذّن به أبونا ابراهيم عليه السلام فجاءت قوافل المؤمنين من كل فج عميق ليطوفوا بالبيت العتيق (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج)
وقد نصّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الحج في الحديث الشريف: "بُني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان" صحيح الجامع الصغير.
وللحج معان وفضائل يحسن الوقوف عندها واستشعار عظمتها فبمعرفتها نفارق في الأداء ما اعتاد عليه بعض الناس وألِفوه من أداء أفعال دون النظر في مدلولها ومقصودها أو استشعار عظيم أجرها وعلو منزلتها ليسمو المرء عندها ويتيه فرحاً بما حباه الله من فضله ويقدّر النعمة التي أنعم الله بها عليه وخصّه دون خلقه بها فكان من الملبين لنداء ربه والمتّبعين لأفعال نبيّه صلى الله عليه وسلم.
والحج عبادة عظيمة الأجر والثواب يمحو الله تعالى بها الخطيئات ويهدم ما قبلها من السيئات ويرفع بها الدرجات وما أجلّها من طاعة وفريضة ينبغي أن يحرص المسلم على أدائها بالكيفية التي شرعها الله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) البقرة) وكما أدّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: "خذوا عني مناسككم" وبشّر عليه الصلاة والسلام فقال "من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" وقال صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"
والحج المبرور هو قصد الكريم وإرادة العظيم وصفاء النية وسلامة الهدف ووضوح الرؤية وإخلاص العمل له جلّ وعلا.
والحج المبرور هو النفقة الحلال والبعد عن الجدال وبذل الحقوق وترك الفسوق والترفع عن العبث وهجر الرفث ولزوم الأدب وحُسن الخلق والتزام النظام وتجنّب الغوغتء.
والحج المبرور هو جمال الاتّباع وروعة القتفاء وتلمّس السُّنة والأخذ عن الحبيب المطصفى صلى الله عليه وسلم والبعد عن المخالفة والحذر من البدعة.
والحج المبرور هو اللهج بالدعاء والإلحاح في الرجاء والكثرة للذكر والتأمل في الوحي والتدبر للقرآن والإقامة للصلاة.
والحج المبرور هو رد المطالم وبذل المكارم وأداء الأمانات.
والحج المبرور هو التوبة من الذنب والندم على المعصية والبكاء على الخطايا والعزم على الاقلاع.
والحج المبرور هو زمّ النفوس عن الهوى وكبح الجوارح عن الخطأ وحفظ اللسان عن الخنا.
والحج المبرور هو تعظيم الشعائر وإجلال المكان واحترام الزمان وصيانة المثل والاحسان إلى الناس.
والحج المبرور هو مرضاة الربّ وغفران الذنب ورفعة للدرجة ومحوٌ للسيئات وطريق إلى الجنة.
الاستطاعة ثلاثة أنواع ؛ بدنية ومالية وأمنية:
الحج كما تعلمون هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله على المستطيع والاستطاعة ثلاثة أنواع ؛ بدنية، ومالية، وأمنية، واستطاعة رابعة خاصة بالمرأة أن يكون لها مَحرَماً، فمن لم تجد محرماً فلا حج عليها، لأنها ليست مستطيعة.
وعند الرجال ثلاثة أنواع من الاستطاعات، فلو أن الطريق غير آمن فلست مستطيعاً، ولو أنك مُنِعتَ من أن تحج فلست مستطيعاً، ولو أنك لا تملك المال الكافي فلست مستطيعاً.
ولا يجوز أن تملك أجرة الوصول إلى مكة، وأن تتكفف الناس هناك، فليس الحج واجباً على الفقراء، إنه قد فُرض على الأغنياء المستطيعين، فأنْ تنام في الطرقات، وأن تشوه سمعة المسلمين، وأن تكون في مظهر لا يليق بالمسلم، فأنت لست مستطيعاً إلا أن تملك أجرة المبيت في بيت يؤويك.
إذاً الاستطاعة ثلاثة أنواع ؛ بدنية، ومالية، وأمنية، بأن يكون الطريق إلى الحج سالكاً.
الإيمان بالله و رسوله أعظم عمل على الإطلاق:
ثمّة شيء آخر ؛ قال بعض العلماء:
((الحج أفضل العبادات لاشتماله على عبادة إنفاق المال، وعلى عبادة شعائرية، وعلى عبادة التفرغ، فيه معنى الصيام، ومعنى الصلاة، ومعنى الاعتكاف، ومعنى الزكاة، ومعنى المرابطة في سبيل الله، ومعنى الغزو، ومعنى تلبية الدعوة، فكل هذه المعاني مجموعة في الحج))
ولكن عند بعض العلماء أن الصلاة هي أفضل الأعمال لأنها عماد الدين كما قال عليه الصلاة والسلام، على كلٍ هذه قضية خلافية.
والنبي عليه الصلاة والسلام سئل أي الأعمال أفضل: قال: إيمان بالله وبرسوله.
هذا أعظم عمل، لأن الإيمان أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وأساس العزائم، والنجاة، والاستنارة، والفلاح، والنجاح، والتفوق، والفوز، وأساس السلامة و السعادة، لما قيل للنبي عليه الصلاة والسلام:
(( أي الأعمال أفضل قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا ؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله ))
[متفق عليه عن أبي هريرة]
فوائد الحج:
على كلٍّ: فالحج له فوائد كثيرة، وهذه قاعدة، لأنّ أمر الله عز وجل لا يمكن أن يُحدَّ بفائدة واحدة، وأمر الله عز وجل لا نهاية لحكمه، ولا نهاية لثمرته اليانعة، فإذا تحدثنا عن الحج فعن بعض فوائده الشخصية.
والحج يحقق للمؤمن نقلة نوعية، فلو ذهب إلى الحج رجل له مخالفات قبل أن يحج، فأغلب الظن أنه بهذا الحج يتوب من هذه المخالفات، ويقبل الله توبته، فينقل هذا الإنسان من المعصية إلى التوبة.
ينتقل الإنسان بالحج نقلة روحية نوعية
فلو أن الحاج مسلم صحّ إسلامه، ولكن عندما يدخل الإيمان في قلبه، فالحج لهذا الإنسان ينقله من مرتبة الإسلام إلى مرتبة الإيمان، ولو أن الحاج مؤمن، فلعله ينتقل بالحج إلى مرتبة التقوى والإحسان، ولو أن الحاج متّقٍ، فلعله ينتقل إلى مرتبة الصديقية، فهناك نقلة نوعية كبيرة ، لأنها أيام طويلة ومديدة يقضيها الحاج في رحاب بيت الله الحرام حول الكعبة، وفي المسعى، وفي منى، وفي عرفات، فتارة يصلي، وتارة يطوف، وتارة يسعى، وتارة يدعو، وتارة يبتهل، وتارة يذكر، وتارة يتلو القرآن، وتارة يتصدق، وتارة يقدم الهدي، فهناك أنواع منوعة، وأفعال كثيرة، وأوقات مديدة، فلذلك الحج يحقق نقلة نوعية للمؤمن.
وبصراحة من ذهب إلى الحج وعاد منه كما ذهب فإنّ الله غني عن عبادة شكلية، وماذا يستفيد الله من ترك بيوتنا وأموالنا وأولادنا، والذهاب إلى مكان بعيد، حيث الحر الشديد والازدحام، وإنفاق الأموال، من دون أن تشعر بهذه الصلة بالله عز وجل ؟ فمن وقف في عرفات ولم يتيقن أن الله قد غفر له فلا حج له، فإلى أين أنت ذاهب ؟ أنت ذاهب إلى الله عز وجل، أفيُعَقل أن الله عز وجل لا يقبلك، وقد دعاك ؟ لا، سيتجلى عليك، سيسعدك، وقد سمح لك أن تأتي إلى بيته العظيم.
الحاج ينتقل بالحج نقلة نوعية من المعصية إلى الطاعة ومن الإسلام إلى الإيمان:
(( الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
هذه نقطة مهمة، فمن جمعة إلى جمعة، ومن صيام إلى صيام، ومن عمرة إلى عمرة ومن حج إلى حج.
إنّ الإنسان أحياناً تدركه غفلة قليلة، ويدركه تقصير، فتأتي الصلاة فتمحو هذا التقصير، وتأتي صلاة الجمعة فيُشحن الإنسان شحنة عاطفية وعقلية، ويُدفَع مرةً ثانية إلى الله ورسوله، فحضور خطبة الجمعة شحنة يشحن بها المؤمن، ومجيء رمضان شحنة أخرى يُشحن بها المؤمن، وهي قفزة، وحركة جديدة، وتطور نوعي، والحج كذلك.
فالفوائد الشخصية أولاً: أن الحاج ينتقل بالحج نقلة نوعية، من مرتبة إلى مرتبة، و من المعصية إلى الطاعة، ومن الإسلام إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى الإحسان، ومن الإحسان إلى الفناء.
فلابدّ أن تنتقل بهذه النقلة النوعية في الحج.
دعوة الله عز وجل الناس الذين لم يحجوا أن يعينوا الحاج على أداء حجه:
وهناك حديث آخر:
(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ُ]
وفي حديث آخر:
(( الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنْ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ، وقال أيضاً - وفي هذا الحديث لفتة دقيقة جداً - يُغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج ))
[رواه البيهقي في شعب الإيمان ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]
ما هذه اللفتة، الحاج مغفور له، ولكن أي إنسان استغفر الحاجُ له فهذا الإنسان يُغفر له، لماذا ؟ كأن الله عز وجل يدعونا جميعاً إلى خدمة الحاج، فإذا جهَّزنا الحاج، وسهلنا أموره، وأعنّاه على حجه بالكلمة الطيبة، والخدمة الصادقة، والمعونة البالغة، فإذا سُر هذا الحاج من خدمتنا، واستغفر لنا، غفر الله لنا، فهذه دعوة لجميع الناس، ولجميع الحجاج، لأنه لو فرضنا أن هذا الحاج اضطر لأن يذهب إلى الحج وقال لك: أوصيك بولدي خيراً، فلو أن أمًّاً طلبت منها ابنتها أن تحج مع زوجها، وأن تدع ابنها عندها، فلو أنها قبلت واستغفرت لها ابنتها لغفر الله لها ولابنتها، فهذه إشارة لطيفة في أن دعوة الله عز وجل لهؤلاء الناس الذين لم يحجوا أن يعينوا الحاج على أداء حجه.
الحج لا يكفِّر إلا ما كان بينك وبين الله فقط:
ولكن هناك وقفة لابد أن أقفها ؛ فقد يتوهم بعض الناس أن الإنسان إذا ذهب إلى الحج كأن ذنوبه موضوعة في وعاء، وقد أفرغ هذا الوعاء في الحج وعاد بلا ذنوب.
أيها الأخوة الأكارم ؛ الذنوب المتعلقة بالعباد لا تُغفر، ولو بمليون حجة حقوق العباد لا يغفرها الحج إنما تغفر بالأداء والمسامحة
فاغتصاب الأموال، وأكل الحقوق، واغتصاب بيت، ومحل، وحقوق أخوته الصغار، وكان الأخ الأكبر فيهم، وقد أكل أموال أخوته من ميراثهم، وذهب إلى الحج فلعل الله يغفر له !! هذا هو الجهل بعينه، فقد أجمع العلماء على أن الحج لا يكفِّر إلا ما كان بينك وبين الله فقط.
هناك صحابي جليل خاض مع النبي معارك ضارية، وبذل هذا الصحابي حياته على كفه في سبيل الله، ومع كل هذا إذا مات هذا الصحابي يسأل النبي عليه الصلاة والسلام أعليه دين ؟
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هُوَ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالْوَفَاءِ ؟ قَالَ: بِالْوَفَاءِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ))
[الترمذي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]
حديث آخر:
(( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ )).
[مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]
فهل من عمل أعظم من أن تقدم حياتك في سبيل الله ؟ ومع ذلك الدين لا يُغفر للشهيد دَيْنُه.
إذاً فهذا الذي يتوهم أن الإنسان إذا أدى الحج غفر الله جميع ذنوبه، هذا إنسان واهم ، والمقصود بالذنوب في قوله: "رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، الذنوب التي بينك وبين الله، أما التي بينك وبين العباد، فكما تعلمون حقوق العباد مبنية على المشاححة، بينما حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة، لذلك قال بعض العارفين:
((ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام))
الحج عمليُة صُلح مع الله و إعلان العبودية له و شكره على نعمتي الغنى و الاستطاعة:
فما معنى حجة الإسلام ؟ هي حجة الفرض، فترك دانق من حرام، والدانق سدس الدرهم، والدرهم افترضه ليرة سورية، فسدسه عشرون قرشاً، فترك هذا المبلغ اليسير من حرام أفضل من ثمانين حجة تؤديها.
من معاني الحج إظهار العبودية لله
والشيء الثاني هو أن الحج يطهِّر النفس مما علق بها من أدران الدنيا، ويصفيها، ويقربها من ربها، ويجعلها مستنيرة، وأن الوقوف بعرفة من معانيه أن تعرف الله عز وجل، لأن الحج من معانيه أن تقيم الحجة بنفسك، فأنت في مناسبة تقترب بها من الله عز وجل، فإذا اقتربت منه ألقى في قلبك نوراً، والله عز وجل مسعد إذا اقتربت منه، فاملأ قلبك سعادة، و هو الغني، فإذا اقتربت منه ملأ قلبك غنى، والإحساس بالصفاء، والغنى، والطمأنينة، هذه كلها مشاعر الحجاج.
فبشكل أو بآخر الحج عمليُة صلح مع الله، ومع الصلح فتح صفحة جديدة، وبالضبط هذا المثل، هناك دفتر حسابات، من، وإلى، وذمم، وديون، وحسابات معقدة، فحينما يحج العبد إلى ربه عز وجل، كل هذه الصفحات تطوى، وتُفتح صفحة جديدة مع الله عز وجل.
فكل إنسان أراد الحج فهو يبحث عن علاقة جديدة مع الله، وعن صفحة جديدة تُفتح في علاقته مع الله عز وجل.
شيء آخر في الحج، وهو أنّ الحج نوع من أنواع الشكر، فالشكر على أية نعمة ؟ على نعمتين ؛ أليس الحج بذل جهد بدني ومالي؟ فإذا ذهبت إلى الحج فقد شكرت الله على نعمة الغنى، ونعمة الاستطاعة، وعلى نعمة القوة التي متعك الله بها.
من معاني الحج إظهار العبودية لله عز وجل، تعال إليّ.. لبيك اللهم لبيك، واخلع عنك الثياب، وارتدِ هذه الثياب غير المخيطة.. لبيك اللهم لبيك، إياك أن تتطيب.. لبيك اللهم لبيك، إياك أن تتكلم كلمة، لا فسوق، ولا جدال.. لبيك اللهم لبيك، فهو عملية خضوع تام لله عز وجل، وهذا نوع من أنواع إعلان العبودية لله عز وجل.
الحج مرة واحدة ومن كان صحيح البدن ميسور الدخل عليه أن يحج كل خمسة أعوام:
هناك شيء آخر في موضوع الحج، أولاً: الحج في العمر مرة واحدة، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ ))
[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]
إذاً الحج مرةً واحدة، ولكن ورد في بعض الأحاديث القدسية التي رواها البيهقي وابن حبان أن الله عز وجل يقول:
(( إن عبداً أصححت له جسمه ـ جسمه قوي ـ، ووسعت عليه في المعيشة ـ دخله كبيرـ تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم ))
[ الجامع الصغير بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري]
معنى ذلك أنّ الحج يتجدّد، والذي حج مرة أو مرتين، كل حجة تشعرك أن هذه الحجة في مستوى أكبر من المستوى السابق.
والحج مراتب كثيرة، فالذي حج مرةً للفرض، يمكن أن يحج كل خمسة أعوام إذا كان صحيح البدن، ميسور الدخل.
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ))
[الترمذي عن عبد الله بن مسعود]
لكن الحج مرة ثانية قد يكون واجباً، فلو أنّ شخصاً قال: إنْ رزقني الله ولداً لأحجَّنَّ بيت الله الحرام، وقد حجَّ سابقاً، فقد صار الآن نذراً، والفرض مرةً واحدة، وصار هذا الحج في حقك واجباً، ويحرم الحج بمال حرام ؛ لأن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً.
يُكره الحج بلا إذن ممن يجب استئذانه:
ويُكره الحج بلا إذن ممن يجب استئذانه، كأحد أبويه المحتاج إليه، رجل له أب محتاج إليه، أو له أم محتاجة إليه، لا يُقبل حجه إلا أن يستأذن أمه أو أباه، أو كلاهما، وهذا من باب الكراهة، وعند بعض المذاهب من باب الكراهة التحريمية، فيكره تحريماً أن تحج بيت الله الحرام دون أن تستأذن ممن له حق عليك.
يُكره كراهة تحريمية أن تحج دون أن تستأذن غريمك، عليك دين لشخص، وقد رآك تذهب إلى الحج، وعليك خمسين ألف ليرة ديناً، فإنّ صاحب الدَّين يتألم ؛ فقبل أن تحج البيت أدِّ ما عليك، أو أنْ تستأذنه فيأذن لك.
والعمرة كما قال بعض العلماء: يمكن أن تتكرر في العام الواحد مرات عديدة، والعمرة عند بعضهم واجبة، كوجوب الحج، لقوله تعالى:
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (196) ﴾
موسوعة النابلسي