تاريخ النشر: 2015/05/19 - 07:42 صباحا
الإنسان هو من يقرر مصيره الأخروي؛ فمن حافظ على جوارحه من الوقوع في المعاصي وأدى ما أوجب الله سبحانه عليه فقد فاز وباع نفسه لله، ومن خالف أوامر الله سبحانه فقد باع نفسه للشيطان وخسر خسراناً مبيناً، وبيع النفس لله بيع بالآجل؛ لأن الجزاء في الآخرة، أما الشهيد فيبيع نفسه بالعاجل فبمجرد استشهاده ينال جزاءه.
بيان كون الإنسان يقرر مصير نفسه
الحمد لله رب العالمين، جعل عاقبته لمن اتقاه، وصلاة الله وسلامه على نبيه ومصطفاه سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وجميع من آمن به واستن بسنته واهتدى بهداه، أما بعد:
فيا معشر الأبناء والإخوان أحييكم جميعاً بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرة ثانية أقول: لقد سبق لنا أن اجتمعنا في بيوت الله على حديث شريف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعدة مرات؛ إذ الحديث كان ذا فقرات، فجلسنا على كل فقرة ساعة من الساعات ونحن في آخر فقرة من ذلكم الحديث النبوي الشريف، ونص الحديث نتلوه تذكيراً لمن نسي، وتعليماً لمن جهل، يقول أبو مالك الأشعري أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ).
فموضوع حديثنا لهذه الليلة الجملة الطيبة من هذا الحديث الطيب الشريف: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) من هنا استنبطنا ذلكم المعنى الذي عنون به أهل مركز الدعوة لهذه الكلمة: (الإنسان يقرر مصيره في هذه الحياة).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) يعني: إن أعتقها فهو الفاعل وإن أوبقها فهو الفاعل، فالإنسان هو الذي يقرر مصير نفسه الآن في الدنيا قبل الآخرة، فهو يأخذ نفسه ويدخل بها السوق ويحرج عليها ويبيعها، فإن باعها للرحمن أعتقها، وإن باعها للشيطان أوبقها أي: أهلكها.
ومعنى هذا: أنه لا جبر ولكن حرية واختيار، فكل الناس أبيضهم وأسودهم سواء، وشريفهم ووضيعهم سواء (كل الناس يغدو) ويحرج على نفسه في سوق الدلالة، وليس هناك من يشتري سوى الرحمن أو الشيطان، فمن باعها للرحمن أعتقها وخلصها من العبودية للشيطان، من أن يسترقها الشيطان في هذه الحياة، ثم خلصها من عذاب الله في الدار الآخرة.
ومن باعها للشيطان -قطعاً- كان قد أهلكها، فهو يقدمها رقيقة يسخرها الشيطان وأعوانه كما يسخر السيد عبده، وبالتالي يهلكها الإهلاك الكامل؛ لأن الخسران الحق ليس أن يفقد الإنسان وظيفة أو يفقد امرأة أو ولداً أو مالاً أو جاهاً وإنما الخسران أن يفقد نفسه، وفي القرآن الكريم آيتان كلتاهما تقرر هذا المعنى، وهو أن الخسران ليس أن تفقد متاعاً من متاع الحياة رخص أو غلي، الخسران -يا عبد الله- أن تفقد نفسك، ومن خسر نفسه خسر كل شيء.
قال تعالى من سورة الزمر: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، أن يدخل المرء عالماً من الشقاء، فيه من ضروب العذاب وصنوف الهوان الأمر الذي لا تطيقه الجبال فضلاً عن الإنسان، عالم الشقاء المعروف بالنار أو بالجحيم، هذا العالم لا يدخله الإنسان دخولاً عادياً وإنما يدع إليه دعاً، يقول تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71]، ويقول: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:13-14].
أحببت أن أذكر ضرباً من أنواع العذاب للعبرة: يقول الله تعالى من سورة النحل: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88] يعني: في هذه الحياة يفسدون عقائد الناس ويفسدون أخلاق الناس، ويفسدون أموال الناس ويفسدون أجسام الناس، فهؤلاء يعذبون كما يعذب سائر الناس، ولكن يزاد عذابهم بسبب إفسادهم؛ لأن شرهم منتقل إلى غيرهم.
قال الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: (هذا العذاب الذي يزادونه هو عبارة عن عقارب، العقرب الواحدة كالبغلة الموكفة تلسعهم) والعقرب في دنيانا حشرة معروفة من الحشرات؛ ولكنها ترهب؛ لأنها تذيق الموت.
هذه على صغرها وتفاهتها نفزع لها، فكيف بها إذا كانت كالبغلة المسرجة وتلسع بشولتها وتضرب بإبرتها؟ كيف يكون سمها؟ وكيف يجري في الآدمي؟ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88].
للشيخ أبو بكر الجزائري